
منذ شهرين
جيا بريس - عاصم سعيد
في تضاريس جبل سنجار الوعرة، حيث نقشت المآسي بصماتها على الصخور والأرواح، تتردد أصداء أغانٍ فلكلورية تتجاوز كونها مجرد ترفيه أو تراث. إنها بمثابة أرشيف حي، وسجلّ نابض بالحياة يختزن ذاكرة المجتمع الإيزيدي، هويته المتجذرة، وصراعه المرير من أجل البقاء.
هذه الألحان والكلمات المتوارثة شفاهةً عبر الأجيال ليست مجرد انعكاس للماضي، بل هي درع ثقافي ووسيلة فعالة لصون الهوية في مواجهة محاولات الطمس والتحديات الوجودية التي عصفت بالمنطقة وسكانها. إنها تعزز الانتماء العميق للأرض والجذور، وتعمل كجسر متين يصل بين الأجيال، ناقلةً حكمة الأجداد وقصص صمودهم وقيمهم الجوهرية إلى الأبناء والأحفاد في عالم يسعى لطمس الخصوصيات.
تنبثق هذه الأغاني من رحم الحياة اليومية ومن عمق التجربة الإيزيدية التاريخية. فجذورها تمتد إلى أزمنة سحيقة حيث كانت تعبر عن طقوس الحياة، أفراحها وأتراحها، ومعتقداتها الراسخة. تطورت عبر العصور، متأثرة بالهجرات والفتوحات والاحتكاك بثقافات أخرى، لكنها احتفظت بجوهرها السنجاري الأصيل. كانت تُغنى في الأعراس والاحتفالات الدينية كجزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي، تُنقل من فم إلى أذن، حاملةً قصص الحب والشجاعة، ومرثيات الفقد، ووصفًا للطبيعة التي شكلت الملاذ والحصن. ومع تطور الحياة، دخلت آلات كالدف والطنبور والناي لتضيف عمقًا تعبيريًا لهذه الألحان، فيما تولى فنانون وشعراء شعبيون مهمة صقلها والحفاظ عليها، ليصبحوا بمثابة حراس الذاكرة الموسيقية لسنجار.
تحمل كلمات أغاني سنجار مضامين تعكس التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها. فنجد أغنية "جياي شنكال" تحتفي بالارتباط الروحي بالجبل وطبيعته، بينما تروي "كه وا من كه وى" قصص الحب العذري الذي غالبًا ما يصطدم بقيود المجتمع وتقاليده الصارمة. وفي المقابل، تمجد أغنية "درويش عبدي" قيم البطولة والتضحية، مخلدة أسماء أبطال محليين دافعوا عن الكرامة والأرض.
ولا تخلو هذه الأغاني من تصوير الحزن العميق الناتج عن الفقد أو التهجير، أو توثيق للعادات والتقاليد والطقوس الدينية الإيزيدية الخاصة، مما يجعلها سجلاً شاملاً للحياة السنجارية.
أغاني سنجار أكثر من مجرد ترفيه
يؤكد الفنان والباحث الإيزيدي، دلكش حازم، على هذه الجذور المزدوجة المنبثقة من الألم والحب، قائلاً: "أرى أن جذور أغانينا تنبع من مصدرين رئيسيين. أولاً، المآسي التي مر بها مجتمعنا من مجازر وإبادات، حيث كان الشعراء يوثقون هذه الأحداث ويتغنون بأسماء قادتنا كجزء من تاريخنا. وثانيًا، مفهوم الحب القديم وتحدياته الكبيرة بسبب رفض المجتمع والعادات والعداوات والفروقات الطبقية". هذا التعقيد هو ما يمنح الأغاني عمقها وصدقها، ويجعلها أكثر من مجرد ترفيه.
تتنوع الأشكال الموسيقية لتعكس مختلف جوانب الحياة؛ فالغناء الفردي غالبًا ما يحمل شحنة عاطفية عالية من الحزن والحنين، بينما يعكس الغناء الجماعي روح التضامن في الاحتفالات. وتلعب الآلات التقليدية دورًا محوريًا؛ فالدفوف تضبط إيقاع الحياة والرقص، والطنبور يضيف لمسة عاطفية عميقة، والناي يعبر عن الشوق وروح الطبيعة. كما توجد أغانٍ طقوسية خاصة بالمناسبات الدينية، وألحان ارتجالية تبرز مهارة الفنان، وموسيقى احتفالية حيوية ترافق الرقصات في الأفراح والمهرجانات. كل هذه الأشكال ليست مجرد قوالب فنية، بل هي جزء لا يتجزأ من التعبير عن هوية وثقافة سكان الجبل.
رموزًا ثقافية تتناقلها الأجيال
لقد ترك شعراء شعبيون بصمات لا تُمحى في هذا التراث، أمثال فقير جميل جندي، قبال، عيدو كتي و خدر فقير الذي اشتهر بأغانيه مثل "غزالي" و"غريبو". هؤلاء وغيرهم صاغوا بكلماتهم وألحانهم جزءًا أصيلاً من الوجدان السنجاري، وأصبحت أغانيهم رموزًا ثقافية تتناقلها الأجيال. إن إرثهم هو شهادة على قدرة الفن الشعبي على التأثير العميق وتخليد الذاكرة.
إن الدلالات الاجتماعية والثقافية لهذه الأغاني عميقة ومتشعبة. فهي ليست مجرد وسيلة للتعبير الفني، بل أداة لتقوية الروابط الاجتماعية وتأكيد الهوية الثقافية الإيزيدية المتميزة. تعمل الأغاني كمنظومة قيم، تنقل للأجيال الجديدة مفاهيم الشجاعة، الكرامة، حب الأرض، والاحترام المتبادل.
كما أنها تؤدي دور المؤرخ الشفهي، فتوثق تفاصيل الحياة اليومية، الأحداث الكبرى، والتحديات التي واجهها الأجداد. وهي أيضًا متنفس للمشاعر الجماعية، سواء كانت احتفاءً بالفرح أو مواساة في الحزن، وتعزز الارتباط الروحي بالمعتقدات والممارسات الدينية الخاصة بالمجتمع.
يُجسد الفنان دخيل أوصمان هذا الارتباط العميق بالتراث، فيقول: "أعتزُّ جدًا بإرثنا الغني. مسيرتي الفنية هي استمرارٌ لمسيرة فنانين عظماء سبقوني، قدموا الكثيرَ للفلكلور رغم كل الصعوبات". ويستذكر بفخر فنانين راحلين مثل عيدو كتي الذي "عاش الفلكلور في كل تفاصيل حياته"، و بير مجو الذي "ظل وفيًا لهذا التراث حتى أنفاسه الأخيرة"، وغادر الحياة وهو يغني أغنية "غريبو" بحنين للوطن في منفاه بهولندا عام 2000. هذه الشهادات الحية تبرز تفاني حراس هذا التراث وأهمية استمرارية رسالتهم.
إنشاء أرشيفات رقمية لحمايتها.
أمام تحديات العصر الحديث وخطر اندثار هذا الإرث الشفهي، يصبح الحفاظ على الأغاني الفلكلورية لجبل سنجار مهمة عاجلة وحاسمة. تتطلب هذه المهمة جهودًا متضافرة تشمل التوثيق الدقيق، الصوتي والمرئي، وإنشاء أرشيفات رقمية لحمايتها. كما يستلزم الأمر دمج هذا التراث في المناهج التعليمية وتنظيم ورش عمل لتعريف الأجيال الجديدة به. ويجب دعم الفنانين المحليين الذين يحملون شعلة هذا الفن، وتشجيع إقامة المهرجانات الثقافية التي تحتفي به. إن استخدام التكنولوجيا الحديثة لنشر هذه الأغاني وتوعية المجتمع بأهميتها كجزء لا يتجزأ من هويتهم، هي خطوات ضرورية لضمان استمرارية هذا الكنز الثقافي.
وكما يؤكد دلكش حازم، فإن "الالتزام بكلمات الأغاني الفلكلورية وعدم التلاعب بها، وإبقاء الأسماء المذكورة فيها حية، هو حفاظ على هويتنا الأصيلة وتاريخنا الذي يجب أن نعتز به".
ويظل فلكلور جبل سنجار أكثر من مجرد أغانٍ وموسيقى؛ إنه صوت الصمود ومرآة الهوية لمجتمع عانى الكثير وظل متشبثًا بجذوره. ستبقى هذه الألحان، إذا ما تم الحفاظ عليها، شاهدًا حيًا على قصة جبل سنجار، ورسالة خالدة عن الأصالة والانتماء تتحدى الزمن والمحن.